المسجد الاقصى

لندن – الدكتور كامل فريد السالك:

قدم الشيخ أحمد الطيب إمام الأزهر الشريف ورموز إسلامية أخرى التهنئة للمسيحيين بعيد ميلاد السيد المسيح. فقد كتب مغردا على وسائل التواصل الاجتماعي:
“أهنئ إخوتي وأصدقائي الأعزاء البابا فرنسيس، والبابا تواضروس، ورئيس أساقفة كانتربري د. جاستن ويلبي، وبطريرك القسطنطينية برثلماوس الأول، وقادة الكنائس، والإخوة المسيحيين في الشرق والغرب بأعياد الميلاد، وأدعو الله أن يعلو صوت الأخوَّة والسلام، ويسود الأمان والاستقرار في كل مكان”. وما ان كتب الامام الأعظم هذه التهنئة حتى انهالت عليه الانتقادات. ونعت باشد الأوصاف. فما سبب الهجوم العنيف من الجمهور العربي في وسائل التواصل الاجتماعي على تهنئة شيخ الازهر وغيره للمسيحيين بعيد الميلاد؟ ولماذا هذا الامتعاض والغضب من بعض المسلمين لمجرد رؤيتهم، أو سماعهم بأن هناك مسلما قد هنأ المسيحيين بعيد الميلاد؟

أسئلة ضرورية

لماذا يتجرأ الناس بهذا الشكل الفج على مهاجمة شيخ الازهر أهم قامة اسلامية كبيرة. لأنه بعث بتهنئة بعيد ميلاد السيد المسيح للمحتفلين بالعيد، وصل إلى حد اتهامه باطلا به بأنه لم يقرأ أية من القرآن الكريم؟
هل هو صراع خفي بين المسلمين المعتدلين والمسلمين المتطرفين؟
أم هناك حرب بين الايمان والكفر؟
أو هو صراع بين المسلمين المتنورين و المسلمين المنغلقين؟
هل هي حرب تصفية حسابات ذات أغراض سياسية؟
أم سبب الخلاف هو الاختلاف في تفسير آيات القرآن الكريم كونه حمال أوجه؟

كل هذه الاحتمالات منفردة ومجتمعة قد يكون لها أثر في هذا الهجوم على قامة اسلامية بهذا الحجم. ولكن السبب الرئيسي بتقديري هو عدم انسجام هذه الشخصيات والمرجعيات الاسلامية ذاتها بين خطابها الداخلي وخطابها الخارجي.

فالخطاب الخارجي يقول أن المسيحيين هم من أهل الكتاب، ولا شي يمنع شرعا من البر بهم ومعايدتهم بعيد الميلاد، لا بل لا شيء يمنع المسلمين من الاحتفال بعيد الميلاد لانه عيد ميلاد نبي له مكانة خاصة عند المسلمين، فالاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح شبيه بالاحتفال بعيد مولد النبي.

خطابان

هذا الخطاب الخارجي مختلف تماما في الشكل والمضمون عن الخطاب الداخلي في المساجد والدروس الدينية وأحاديث المجتمعات المغلقة وحتى في وسائل الاعلام والذي يقوم على اعتبار أن المسيحيين مثلهم مثل اليهود كفارا وأعداء الاسلام وهم منحرفين عن رسالة عيسى بن مريم، محرفين للإنجيل وهم نفسهم من قادوا الحروب ضد بلاد المسلمين من الحروب الصليبية الى حرب العراق وافغانستان. ثم اذا كانوا هم لا يؤمنون بنبينا، فلماذا علينا نحن أن نؤمن بنبيهم ونحتفل بميلاده؟

هذان الخطابان المتناقضان يقومان على أرضيتين مختلفتين تماما: الأولى عقائدية فقهية والثانية سياسية تاريخية. وهما السبب الرئيسي على هجوم كثير من المسلمين على شيخ الأزهر ونعته بأشد الأوصاف، ولسان حالهم يقول تعلموننا أن المسيحيين كفار وخارجين عن ملتهم ومحرفين لكتبهم ومحتلين لبلاد المسلمين وقتلة أبنائنا وبناتنا، وأنه لا يجوز التشبه بهم ولا بأعيادهم واحتفالاتهم وكفرهم، ثم تعايدونهم في أعيادهم وتقدمون لهم التهنئة والتقدير والاحترام، وكأنهم اتباع سيدنا عيسى الوفيين بحق له ولرسالته؟

تجنب ازدواجية الخطاب الديني

ولذلك يجب أن نطالب بمنتهى الوضوح والشفافية بضرورة تجنب اية ازدواجية في الخطاب الديني. فالعقائد الدينية يجب أن تكون موحدة ومتسقة، ولا تتغير بتغير الجمهور وأهوائه. هذه الازدواجية هي اس البلاء وترجع بالدرجة الأولى إلى الخلط الخبيث بين الجانب الديني العقائدي من جهةٍ والجانب السياسي والتاريخي من جهة ثانية. ولذلك فالدين يجب أن ينفصل عن ما يدنسه وبشكل خاص السياسة والصراعات والحروب التي تتنافى مع جوهر الدين ورسالات السماء. ولا سيما ان المسلمين والعرب يعانون من الاستهداف بشكل جماعي بسبب اعمال ارهابية ارتكبها بعض من يدعون الاسلام.

فلماذا يطالبون غيرهم وهم على حق بعدم ربط الارهاب بالاسلام، لمجرد أن بعض الاعمال الارهابية بالعالم ارتكبها اشخاص يدعون الاسلام. وبنفس الوقت يسألون المسيحيين و يحاسبونهم بالجملة عن قرارات اشخاص محددين وادارة بعينها في العالم، لمجرد ادعائهم الايمان بالمسيحية. فكما أنهم يعتقدون أنه لا علاقة للاسلام بواقعة دهس وقعت في فرنسا ارتكبها مسلم، فيجب أن يكونوا على يقين بأنه لا علاقة للمسيحية والمسيحيين بقرار خاطئ ارتكبه رئيس دولة علمانية يصفها المسلمين بأنها دولة مسيحية نسبة الى معتقد غالبية سكانها بغزو دولة أخرى توصف بأنها دولة اسلامية لأن غالبية سكانها من المسلمين!

على خطى القديس بولس

عند زيارته إلى دمشق على خطى القديس بولس طالب بعض المسلمين والمسيحيين السوريين بحق البابا يوحنا بولس الثاني من الاعتذار عن الحروب الصليبية التي ارتكبها أسلافه، فكان رد البابا بضرورة تنقية الذاكرة من كل ما يشوبها من الحوادث التاريخية المؤلمة من أجل أن نعيش في سلام الله. ربما هذا بالفعل ما نحتاجه لنخرج من قيود الذهنية الطائفية في الشرق وأسر الذهنية العنصرية في الغرب.

بقي أن نوضح وجهة نظر المؤمنين حقا بالمسيح، كلمة الله بالتعبير الاسلامي أو الاله المتجسد بالتعبير المسيحي، الذي نحتفل في هذه الايام بتجسده ومولده، فالمؤمنون حقا بيسوع المسيح يعتبرون أن عدم التعرف على هذه الشخصية الفريدة في التاريخ الإنساني وفهم قيمها والاحتفال بمولدها هي خسارة لهم على كل المستويات، وهي لا تشكل بأي حال خسارة للمسيحيين سواء قام الاخرون بواجبهم الانساني والاجتماعي بالتهنئة بعيد الميلاد ام لا. فالتهنئة بعيد الميلاد لن تضيف لفرحهم ببزوغ نور المسيح والمسيحية شيئا حتى لو صدرت من أهم المراجع المسيحية مالم تقترن بافعال محبة ورحمة ورجاء جاء السيد المسيح إلى الارض من أجلها. بهذا المعنى نتمنى للانسانية جمعاء ميلاد مجيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *