
مشيعون يتجمعون خلال جنازة شيندا كيشو التي قُتلت في اللاذقية
الدكتور كامل فريد السالك

(باحث سوري وأستاذ جامعي مقيم في لندن)
تعيش أكثر دول منطقتنا تحدياً حقيقياً يكمن في تعرضها لخطر تفتيت دولها الوطنية التي تشكلت بعد سقوط الدولة العثمانية وما تلاها من خضوع المنطقة لحقبة الاستعمار الغربي وتقسيم المنطقة بين بريطانيا وفرنسا، حيث تم تقسيم أراضي الدولة العثمانية بين الدولتين. لذا نحن أمام تهديد الهوية الوطنية وخطر تقسيم المنطقة.
وأدى هذا التقسيم إلى إنشاء دول جديدة في منطقة الشرق الأوسط بشكل مصطنع. وكانت الحدود التي رسمتها الاتفاقية هي التي تسببت في وضع أساسيات الحدود التي نراها اليوم بين العديد من الدول العربية. وعلى الرغم من رفض مشاريع التقسيم الاستعماري والحدود المصطنعة بين المناطق التي كانت خاضعة للباب العالي في حينها. إلا أن دول المنطقة ذاتها التي قامت في الواقع على أساس حدود مصطنعة، تواجه الآن خطراً حقيقياً في التقسيم. تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ.
وتستند مشاريع ومخاطر التقسيم لدول المنطقة على أساس ديني طائفي أو قومي عرقي. وذلك في ظل واقع يقوم على وجود مكونات مختلفة عرقياً ودينياً في هذه الدول. في وقت عجزت الدول الوطنية عن توظيف هذا الأختلافات الموجودة من أجل تكوين هوية وطنية جامعة لرعاياها.
عجز عن استيعاب الاختلافات
وقد برز عجز هذه الدول عن استيعاب الاختلافات الدينية والقومية وتحويلها من عامل تفرقة إلى عامل قوة وغنى للدولة والمجتمع. و تجسد هذا العجز بصورة جلية في ظل عدم قدرة الدول التي نشأت بعد الحربين العالميتين في منطقتنا عن ايجاد هوية وطنية جامعة موحدة تجمع الشعب وتوحده قواه في تلك الدول.
ومن اللافت أن كل الاتجاهات الفكرية والأحزاب السياسية في تلك الدول كانت تمثلها ثلاثة تيارات رئيسية. التيار الإسلامي والتيار القومي والتيار اليساري. والشيء المشترك في هذه التيارات الثلاثة هو إهمال الهوية الوطنية إلى درجة التضحية فيها. وذلك إما لصالح الهوية الإسلامية أو لصالح الهوية القومية أو لصالح الهوية الأممية.
فالتيار الإسلامي لا يرى في الوطن إلا “مجرد حفنة من التراب العفن” على حد تعبير سيد قطب. ويرفض مجرد الحديث عن شيء اسمه وطن، وهذا ما أعلنه بوضوح حسن البنا بقوله: “أنا لا أنتمي لوطن”. في حين يرى أنس خطاب، وزير الداخلية السوري الحالي بأن الإسلام يجعل الولاء والبراء معقوداً على الدين. وكذلك القتال في سبيل الدين، ولإعلاء كلمته. بينما الوطنية تجعل الولاء والبراء على أساس الوطن والأرض.
فأبناء الوطن الواحد بعضهم أولياء بعض، بغض النظر عن أديانهم، فالمسلم أخو النصراني أخو اليهودي أخو الملحد أخو المرتد، لا فرق بينهم، ولا فضل لأحدهم على الآخر، لأنهم جميعاً أبناء وطن واحد.
أما الإسلام فيقرر بوضوح وصراحة أن الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة. ويضيف خطاب: “أن الوطنية مذهب فلسفي يناقض دين الإسلام، فلا يجوز الاعتقاد به والانتساب إليه، سواء كان ذلك على الحقيقة أو لأجل التورية ومخادعة العدو، وإن كان الحكم لا يستوي في الحالين، فالأول حكمه الكفر، والثاني حكمه التحريم”.
التيار القومي
وأما التيار القومي وبخاصة القومي العربي فينظر إلى الأوطان القطرية على أنها تجزئة فرضها الاستعمار، وهي عوائق أمام تحقيق “الوحدة العربية” ويرى أن الانتماء الحقيقي يجب أن يكون للأمة العربية كوطن كبير، لا للحدود الحالية. وعليه فهو لا يُنظر للوطن كوحدة قطرية مثل مصر، سوريا، العراق، بل كوحدة قومية شاملة تمتد من المحيط إلى الخليج.
وأما التيار اليساري الأممي فغالبًا ما ينظر للوطن والانتماء القومي كنتاج للرأسمالية أو البرجوازية، ويعتبر أن “العمال لا وطن لهم”، كما ورد في البيان الشيوعي. لكن هذا لا يعني إنكار الواقع القومي، بل السعي لتجاوزه نحو تضامن طبقي أممي.
وفي ظل سيادة هذه الاتجاهات الفكرية، لا مجال للحديث عن هوية وطنية للسوري أو العراقي أو اللبناني مثلا، لأن هذه الهوية الوطنية غير محددة وغير موحدة، ومن الطبيعي أن يشعر الشيعي العراقي مثلا في هذه البلدان بعلاقة روحية ليس مع اخوه في الوطن بل مع ايران الإسلامية الشيعية ويتوق لحكم ولاية الفقيه في ايران.
وكذلك فالسني السوري يرى نفسه متعلقا عاطفيا ونفسيا بتركيا التي كانت يوما مركزا للخلافة العثمانية، ولا يخفي حنينه للخلافة الأموية، ولا يبدي العاطفة ذاتها لمواطنه السوري الكردي أو الشركسي. وأما المسيحي اللبناني مثلا فيجد نفسه منسجما روحيا مع الثقافة الفرنسية، والحضارة الغربية. وأما الكردي السوري والعراقي فيحلم بوطن وبدولة كردستان تحتضن تراثه وثقافته، ولا يجد نفسه في نطاق الحضارة العربية الإسلامية.
غياب الهوية الجامعة
ولذلك وفي ظل سيادة افكار التيارات الإسلامية والقومية والأممية وغياب هوية جامعة موحدة لأبناء الدولة الواحدة فإن الاستمرار بالحديث عن دول وأوطان في هذه المنطقة هو محض انكار للواقع.
فالشيء الطبيعي في ظل هذا الواقع أن يتوق الكردي إلى وطن يحتضن تراثه وتاريخه ويعترف بهويته. ومن المنطقي أن يتطلع المسلم السني السوري إلى حكم أموي أو على الأقل إلى حكم عثماني، ومن المألوف أن يجد الشيعي نفسه في حكم ال البيت وولاية الفقيه، ومن غير المستهجن أن يفقد المسيحي الأمل في هذه الأوطان.
ويفضل في ظل هذا الواقع أن يهاجر إلى الغرب ليحقق أحلامه هناك. ولذلك علينا ان نطالب كل المعنيين وأصحاب القرار في دولنا ، ومن أجل الحفاظ على كيانها الحالي، بالقيام بخطوات اليوم قبل غد من أجل صياغة هوية وطنية جامعة لكل مكونات الدول الحالية وخاصة في سوريا والعراق ولبنان ترتكز على المشتركات التي توحد الشعب والجوامع التي تجمع المجتمع، وعلى رأسها الصفات الثقافية والاجتماعية والمنافع الاقتصادية.
التركيز على الدين والطائفة
أما التركيز على الدين والطائفة والقومية والعرق والهوية الإنسانية الأممية، كما تنادي التيارات الفكرية السائدة عندنا فلن يجدي نفعا. هذا إذا كانت هذه الدول تريد فعلا أن تواجه خطر التفتت والتشظي. وأما التغني بالوحدة الوطنية والتآخي بين الطوائف والأديان والأعراق واستعراض صور ومشاهد التآلف بين مواطنيها لن يفيد شيئا. وستواجه هذه الدول واحدة بعد الأخرى التفتت والتشظي والتقسيم شئنا أم أبينا.
ولن ينفعنا التفكير بمنطق الأقلية ولا الأكثرية، ولا بمنطق موازين القوة والنفوذ، ولا بذريعة الاستقواء بالخارج أو الداخل. ولذلك لا بد من اعادة صياغة للهوية الوطنية التي تجمع أبناء الشعب الواحد في الدولة بكافة مشاربهم وتنوعهم. وبغير ذلك لا يمكن بناء وطن عزيز لكافة أبنائه، يشعر كل مواطن فيه أن هذا هو وطن نهائي له ولاولاده، يدافع من أجله بأغلى ما عنده. وبدون الارتكاز كليا على هذه الهوية الوطنية الجامعة سيبقى خطر التقسيم يهدد هذه الدول في الحاضر وفي المستقبل.