
أحمد الشرع لدى الامضاء على الاعلان الدستوري الجديد
الدكتور كامل فريد السالك

(استاذ جامعي وباحث قانوني مقيم في لندن)
الإعلان الدستوري هو نص مؤقت يصدر عن سلطة حاكمة مثل رئيس الدولة أو المجلس العسكري أو الحكومة الانتقالية لتنظيم إدارة الدولة خلال فترة انتقالية بعد حدوث تغيرات سياسية كالثورات أو الانقلابات. ويُعتبر بمثابة دستور مؤقت لحين إصدار دستور دائم يوافق عليه الشعب.
يكتسب الإعلان الدستوري أهمية لأنه يضع الإطار القانوني والسياسي لإدارة الدولة، بعد سقوط النظام السياسي ويمنح سلطة الأمر الواقع الأساس القانوني لممارسة السلطة، ويكفل عدم انتهاك حقوق الفرد ويضع خطة واضحة لانتقال السلطة، ويساعد الدولة الخارجة من نظام دكتاتوري إلى الانتقال إلى نظام ديمقراطي.
لا يعرض الاعلان الدستوري عادة على الشعب وبالتالي لا يكتسب شرعيته من إرادة الشعب، ولكنه يكتسب شرعيته من خلال مضمونه وتقيده بالمبادئ الدستورية المتعارف عليها في الدول المتمدنة. ويكتسب الإعلان الدستوري قيمته من كونه وسيلة لا بد منها لتأمين الاستقرار السياسي وحماية الحقوق والحريات وانتقال السلطة بشكل منظم إلى الهيئات المنتخبة من الشعب.
أهم المبادئ
أهم المبادئ الذي يجب أن يتقيد بها الإعلان الدستوري، حتى يكتسب شرعية دستورية هي مبدأ فصل السلطات، ومبدأ الديمقراطية والمشاركة السياسية، ومبدأ المواطنة المتساوية، ومبدأ حكم القانون واستقلال القضاء، ومبدأ حماية الحقوق والحريات، ومبدأ تداول السلطة بشكل سلمي، ومبدأ العدالة الانتقالية والمسألة.
ومن أجل تكوين رأي سليم حول الإعلان الدستوري الصادر عن سلطة الأمر الواقع في سوريا مستنداً إلى معطيات العلوم القانونية، والحكم على مدى توافقه مع المبادئ الدستورية المذكورة أعلاه، لا بد من تفحص مدى موافقة هذا الإعلان لكل مبدأ من المبادئ الدستورية المتقدمة.
دستور دائم وليس بإعلان
لا يحتاج المتخصص لكثير من الجهد حتى يدرك أن الإعلان الدستوري المذكور هو أقرب إلى دستور دائم منه إلى إعلان دستوري مؤقت. فقد منح السلطة الانتقالية سلطات كاملة بخلاف المعتاد في الاعلانات الدستورية التي تمنح السلطة الانتقالية سلطات محدودة تقدر بحالة الضرورة التي تتطلبها للقيام بالمهام الاساسية للحكومة في الفترة الانتقالية. كما أنه حسم مسبقاً كل المسائل الجوهرية الخلافية في الدستور المقبل للدولة من اسم الدولة وعلمها إلى نظام الحكم وشكل الدولة وتوزيع السلطات فيها إلى مصادر التشريع إلى اختيار النموذج الاقتصادي والاجتماعي إلى شؤون القضاء والإدارة. وقد احتوى الإعلان الدستوري ثلاثاً وخمسين مادة، توزعت في أربعة أبواب.
بلا شرعية شعبية
ومن خلال التدقيق في هذا الإعلان الدستوري نجد أنه يفتقر إلى الشرعية الشعبية لأنه لم يعرض على الشعب وهذا أمر مفهوم، ولكنه أيضا يفتقد للشرعية الدستورية لأنه لا يتقيد بالمبادئ الدستورية المتعارف عليها في كل دساتير العالم وفقا لما سنبينه فيما يلي:
أولا- مبدأ فصل السلطات:
يمنح الاعلان الدستوري رئيس الجمهورية سلطات مطلقة لا بل يمنحه كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. هذا المنهج المستغرب يعتبر مخالفا لمبدأ فصل السلطات وتوزيعها بين هيئات وعدم تركيزها في هيئة واحدة أو في شخص واحد. فالمادة 31 وما يليها من الإعلان الدستوري منحت رئيس الجمهورية سلطات تنفيذية كاملة فهو الذي يدير البلاد وهو القائد العام للجيش والقوات المسلحة وهو الذي يمثل الدولة ويبرم المعاهدات، وهو الذي يعلن حالة الطوارئ ويعين أعضاء مجلس الامن القومي. كما منحته المواد 24 وما يليها سلطات تشريعية كاملة فهو الذي يعين أعضاء مجلس الشعب أما بشكل مباشر بتعيين ثلثهم، أو بشكل غير مباشر عن طريق تعيين لجنة تعين الثلثين الباقيين.
تمويه مريب
ولا ندري لماذا لم يمنحه الإعلان الدستوري سلطة تعيين كل أعضاء مجلس الشعب. ولجأ إلى هذا التمويه المريب والخدعة القانونية المكشوفة – وهو الذي يقر القوانين الصادرة عن المجلس المعين ويعترض عليها ولا يمكن كسر هذا الاعتراض على القوانين التي يقرها مجلس الشعب الا باغلبية ثلثي أعضاء مجلس الشعب، وهو الذي يصدر قانون العفو ويعلن حالة الطوارئ. كما ان له سلطة لاصدار قرارات رئاسية هي في حقيقتها قرارات لها طابع التشريع.
وبالاضافة إلى السلطتين التنفيذية والتشريعية منح الإعلان الدستوري أيضا الرئيس السلطة القضائية عن طريق منحه سلطة تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا بشكل مباشر وتعيين باقي القضاة بشكل غير مباشر عن طريق تسميته لوزير العدل الذي له الحق عادة بتعين القضاة والسلك القضائي. وهذا يعني أن السلطات الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية قد تم اسنادها لرئيس الجمهورية في هذا الاعلان الدستوري. وأما ما جاء في المادة الثانية من الاعلان الدستوري التي نصت على مبدأ فصل السلطات فهو مجرد مادة انشائية لا قيمة فعلية لها.
فالاعلان الدستوري اسند عن جهل أو عن علم السلطات الممنوحة للشعب في كل دساتير العالم لرئيس الجمهورية عندنا، وبدلا أن تنبثق السلطات من الشعب كما هو العمل عليه في كل دساتير العالم، أصبحت السلطات كلها تنبثق من رئيس الجمهورية الذي لم ينتخب أصلا من الشعب. وما يعزز هذا القول أن الاعلان الدستوري لم يحدد اي مسار لمحاسبة رئيس الجمهورية، فلا يحق لمجلس الشعب أو الحكومة أو المحكمة الدستورية عزل الرئيس ولم يحدد ألية لانتقال صلاحيات الرئيس في حال خلو منصبه بسبب مرضه او وفاته.
لا ضوابط فعلية
مما يعني أن الرئيس مثل الشعب لا يمكن محاسبته ولا عزله ولا يمكن شغور منصبه، وليس هناك أي ضوابط فعلية لمراقبة اداءه وتقييمه. كل هذا ينتقص من مبدأ فصل السلطات التي نص عليه الإعلان الدستوري لتجميل هذا الاعلان، ويقوّض مبدأ استقلال القضاء، ويخلّ بمبدأ توازن السلطات ويثير المخاوف من إعادة إنتاج نظام الحكم الفردي الذي انتفض السوريون ضده. ومما لا شك فيه أن واضعي الإعلان الدستوري أبدعوا إبداعًا لم يسبقهم إليه أحد في منح سلطات الشعب كلها للرئيس الفاتح.
والحقيقة ان الذي أطلع على فقه الحركات السلفية الجهادية الإسلامية يستنتج على الفور أن الرئيس في الإعلان الدستوري ما هو إلا أمير الجماعة الإسلامية في ادبيات الحركات الإسلامية التي ترى فيه خليفة الله في الأرض. وغير خاف أن ادبيات هذه الحركات الإسلامية تعتبر هذا الإجراء ضروريا، فيما تسميه مرحلة التمكين لتطبيق شريعة الله على الأرض واقامة الحكم الإسلامي.
ثانياً- الديمقراطية والمشاركة السياسية:
بعد تركيز كل السلطات في يد رئيس الجمهورية، فإن الإعلان الدستوري لم يترك اي دور للشعب ممثلا بالاحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني في اختيار الحكام والمشاركة في الحكم واتخاذ القرار، على الرغم أن المادة 14 من الإعلان الدستوري تحدثت عن المشاركة السياسية وتشكيل الاحزاب. ولا ندري كيف ستتم المشاركة في الحياة السياسية بعد حل كل الاحزاب والنقابات وتعيين رؤساء ومجالس النقابات. هذا ما يجعل هذه المواد مجرد عبارات انشائية خالية من أي مفعول، مما يعطل بالكامل مسار التحول الديمقراطي.
إن هذه المواد تفتقر بعد أن تم اعلان حل الاحزاب والنقابات إلى الحيلولة دون أي مشاركة فاعلة للشعب في الحكم، ويكرس سلطة الرجل الواحد ويحول سورية من دولة قانون ومؤسسات إلى إمارة اسلامية تتركز السلطات كلها في شخص أمير الجماعة. وما يعزز هذا الاعتقاد ان الإعلان الدستوري برمته لم يتضمن كلمة الديمقراطية، وهذا أمر مستهجن، ولكنه مفهوم تماما بالنسبة لفقه الحركات الإسلامية التي تعتبر أن الديمقراطية كفر وشرك وتشبه بالغرب الكافر.
ثالثاً – المواطنة المتساوية:
إن النص على وجوب أن يكون رئيس الجمهورية مسلمًا يمثل انتهاكًا لمبدأ المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان، ويتناقض مع المادة السادسة من الإعلان الدستوري نفسه، التي تؤكد على المساواة بين المواطنين. إن فرض هذا الشرط يضع قيودًا تمييزية غير مبررة على الحقوق السياسية على قسم من المواطنين السوريين. كما ان اصرار الإعلان الدستوري على تسمية الدولة بـ “الجمهورية العربية السورية”، يعكس توجّهًا إقصائيًا لمكونات أصيلة من الشعب السوري مثل الأكراد، والسريان الآشوريين، والأرمن، والتركمان وغيرهم. فسوريا كانت وما زالت وطناً مشتركاً لجميع أبنائها، ولا يجوز حصر هويتها في مكون قومي واحد ولو كان يشكل أكثرية السكان.
والمستغرب أن الإعلان الدستوري لم يأتِ على ذكر المكونات القومية والدينية المتعددة في سوريا، مما يعكس نهجًا إقصائيًا يتناقض مع الالتزامات الدولية لسوريا بحماية حقوق الأقليات القومية والدينية والمحافظة عليها، كما ورد في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وإعلان حقوق الشعوب الأصلية الصادر عن الأمم المتحدة.
الفقه الإسلامي
كما أن النص على أن الفقه الإسلامي المصدر الرئيسي للتشريع، وليس مجرد مصدر من مصادر التشريع كما نصت الدساتير السابقة، يتنافى مع واقع سوريا كدولة متعددة الأديان والمذاهب، ويتعارض مع مبادئ التشريع المدني الحديث، الذي يجب أن يكون مستندًا إلى مبادئ حقوق الإنسان والمعايير الدولية، وليس إلى اجتهادات فقهية نشأت وتكونت منذ أكثر من ألف عام تخص فئة واحدة من المواطنين.
وغني عن البيان أن الفقه الاسلامي ليس مفهوما موحدا عند جميع المسلمين، مما يعزز الاعتقاد أن المقصود هو الفقه السلفي الجهادي الغريب كليا عن الإسلام الوسطي في سورية والفقه الحنفي الذي يعتنقه المسلمين السنة في سورية. وعلى الرغم من أن الاعلان الدستوري أشار إلى مكانة المرأة الاجتماعية، إلا أنه لم يحدد أي ضمانات قانونية لدورها في الحياة السياسية، ولم يضع أي أحكام لضمان تمثيلها العادل في هيئات الدولة ومؤسساتها. وأكثر ما يدعو للتشاؤم في غياب فكر دولة المواطنة في الإعلان الدستوري، أنه لم يشترط الجنسية السورية مثلما اشترط الديانة في رئيس الدولة، وهذا يعطي انطباعا أن مواطنية رئيس الدولة وانتمائه السوري ليس مهما إذا ما قورن بدينه، وهذا يفتح الباب لتولي غير السوري منصب الرئيس. كل هذا يهدر كليا مفهوم دولة المواطنة و يستعيض عنه بمفهوم رعايا الإمارة الإسلامية.
رابعاً – حكم القانون:
مبدأ حكم القانون هو أحد المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولة الحديثة، ويعني أن القانون هو الذي يحكم الدولة، وليس الأفراد فقط، ويخضع الجميع، سواء كانوا حكاما أو محكومين، للقانون ويلتزمون بتطبيقه بالتساوي وبدون تمييز أو استثناء. وأهم شرط لتطبيق حكم القانون هو وجود قضاء مستقل وغير خاضع لتأثير الحكومة أو المصالح الخاصة. ومن قراءة الاعلان الدستوري يتبين أن القضاء غير مستقل لانه يخضع بالكامل للسلطة التنفيذية وتحديدا لرئيس الجمهورية الذي يعين قضاة المحكمة الدستورية العليا ويعزلهم بقرار منه، كما يعين بقية القضاة بشكل غير مباشر، كما تقدم. وفي ظل قضاء تابع بالكامل للسلطة التنفيذية وعدم وجود سلطة قضائية مستقلة، لن يستطيع أحد أن يدعي وجود دولة يحكمها الدستور والقانون.
خامساً- حماية الحقوق والحريات:
رغم أن الاعلان الدستوري قد نص في الباب الثاني وفي المواد 12 – 23 على الحقوق والحريات إلا أنه لم يقدم ضمانات حقيقية تكفل ممارسة فعلية لهذه الحقوق والحريات. فعند قيام الحكومة بانتهاك الحقوق التي جاء الإعلان الدستوري على تعدادها، ليس هناك ضمانات قضائية او إجرائية يمكن للمواطن سلوكها في حال انتهكت هذه الحقوق. وهذا يعني أن القيمة الفعلية لهذه الحقوق معدومة في الواقع. فهل يحق للمواطن أن يعترض أمام القضاء على اجراء ينتهك حريته أو يمس حقوقه الاساسية؟
وهل يستطيع المواطن أن يطعن باجراء ضده أتخذته الحكومة بخرق حرمة بيته أو اعتقاله بدون مبرر قانوني وتقييد حريته بشكل تعسفي؟ هل يستطيع المواطن أن يعترض على قانون يمس مبدأ مكرس بالدستور؟ وكيف وأمام أي محكمة؟ هل يحق للكردي أن يتقدم للمحكمة الدستورية بالغاء نص المادة الاولى من الاعلان التي تقول أن سورية جمهورية عربية على أساس أنها تحتوي ضمنا إقصاء لقوميته وتمييزا ضده وخرق لمبدأ المواطنة المتساوية التي كفلها الاعلان الدستوري؟
المساواة بين السوريين
وما الفائدة من النص على المساواة بين السوريين في الحقوق اذا لم يتمكن غير المسلم بالترشح لمنصب الرئيس؟ فالمساواة مفهوم حسابي إما أن يكون أو لا يكون، فمفهوم شبه المساواة يعني في الواقع عدم المساواة. وهل يمكن أن يتقدم أي سوري بالطعن بالمادة التي تعطي رئيس الجمهورية أو سواه حق الجمع بين سلطات تشريعية وتنفيذية مثلا خلافا لنص الدستور الذي ينص على مبدأ فصل السلطات؟ هذه النواقص والتناقضات تجعل مبدأ المواطنة حبرا على ورق.
سادساً- تداول السلطة:
هو أحد المبادئ الأساسية في الأنظمة الديمقراطية، ويعني انتقال السلطة سلميًا بين الأفراد أو الأحزاب السياسية وفقًا لقواعد دستورية وقانونية محددة، بدلًا من احتكارها من قبل جهة واحدة، ويضمن أن الحكم لا يظل محتكرًا من قبل فرد أو حزب واحد أو جماعة واحدة، مما يمنع الاستبداد و يقلل من احتمالات النزاعات السياسية العنيفة، حيث يكون هناك أمل مستمر في التغيير ويسمح بمحاسبة المسؤولين من خلال الانتخابات، مما يدفعهم إلى تقديم أداء أفضل أثناء فترة حكمهم. ولا يمكن أن يتم تداول السلطة ما لم تُجر انتخابات حرة ونزيهة وفقًا لقوانين وأليات واضحة وقبل ذلك وجود مؤسسات قوية تضمن عدم استحواذ جهة واحدة لسلطة الدولة.
لم يؤسس لقيام مؤسسات
والحقيقة أن الإعلان الدستوري لم يؤسس لقيام مؤسسات قوية تكفل عدم الانفراد بالسلطة، بل على العكس جعل من الرئيس مصدر للسلطات وأسند إليه كل المهام. كما أن الإعلان الدستوري لم ينص على أليات محكمة لتداول السلطة. وغني عن البيان أن غياب تداول السلطة يؤدي إلى الاستبداد، والفساد السياسي، وانعدام الاستقرار، وهو ما يظهر في الأنظمة التي تعتمد على الحكم المطلق، وهذا ما كرسه الإعلان الدستوري للأسف الذي أغفل تحديد دقيق لأليات انتقال السلطة، كما أغفل آلية تشكيل لجنة صياغة الدستور الدائم وكيفية إقرارها.
وبالإضافة إلى ذلك فقد حدّد الإعلان الدستوري مدّة المرحلة الانتقالية بخمس سنوات، وهي مدة طويلة غير مبررة، خاصة في ظل الظروف الحالية، حيث تحتاج سوريا إلى انتقال سريع وفعّال نحو الديمقراطية، بدلًا من إطالة أمد الحكم الانتقالي بمبررات واهية.
سابعا- مبدأ العدالة الانتقالية والمساءلة:
العدالة الانتقالية هي مجموعة من الآليات والتدابير القضائية وغير القضائية التي تُستخدم لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم الجسيمة التي ارتُكبت في ظل النظام البائد. تهدف إلى تحقيق المصالحة الوطنية، وتعزيز سيادة القانون، ومنع تكرار الانتهاكات.
وتعتبر المساءلة، أحد المبادئ الأساسية للعدالة الانتقالية، حيث تعني محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات لضمان عدم الإفلات من العقاب، سواء عبر المحاكم المحلية أو الدولية، أو من خلال لجان الحقيقة والمصالحة وتوثيق الجرائم والانتهاكات لمساعدة الضحايا في الحصول على العدالة وتقديم المسؤولين عن الجرائم إلى المحاكمة لضمان عدم إفلاتهم من العقاب وتقديم تعويضات مادية أو معنوية للضحايا وعائلاتهم وتغيير القوانين والمؤسسات لضمان خلق بيئة تُسهّل التعايش السلمي بعد الصراعات.
تعزيز الثقة في القضاء
وتكمن أهمية العدالة الانتقالية والمساءلة في تعزيز الثقة في النظام القضائي والسياسي، ومنع الانتقام والعنف المتكرر، وإعادة بناء المجتمعات بعد الحروب والنزاعات، وضمان عدم تكرار الجرائم والانتهاكات في المستقبل. فالعدالة الانتقالية ليست مجرد أداة لمعاقبة الجناة، بل هي وسيلة لتحقيق السلام المستدام، وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان، وضمان العدالة للأجيال القادمة. ومن مراجعة الاعلان الدستوري يتبين غياب التدابير والاليات القضائية الواضحة للعدالة الانتقالية، مما يزيد تعميق الأزمة الوطنية.
ففيما عدا النص في المادة 46 على تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية لا نجد اي اشارة إلى اليات محددة تعاقب المجرمين وتنصف الضحايا. فالأمر يحتاج لانشاء تدابير وأليات تتجسد في انشاء محكمة مستقلة تعمل وفق اسس ومعايير دولية ووفقا لقانون للعدالة الانتقالية لملاحقة ومحاسبة كل من تلطفت يده بدم الشعب السوري وتضمن محاكمات عادلة ومحايدة للمتهمين. وهذا ما غفل عنه الإعلان الدستوري. وبالتالي فإن الاعلان الدستوري لم يتقيد بهذا المبدأ الدستوري بالشكل السليم، وخاصة في ألية انشاء محكمة قانونية للعدالة الانتقالية وقانون عصري للعدالة الانتقالية.
صياغة ضعيفة
والحقيقة أن الاعلان الدستوري تضمن صياغة ضعيفة وغلب عليه الخطاب الانشائي والعبارات غير الواضحة وفيه الكثير من المضامين التي ستجعل سوريا أقرب لامارة اسلامية، منه إلى دولة مؤسسات وقانون. وكان يجب أن يكون الإعلان الدستوري واضحًا، وموجزًا، ومحددًا ومفهوما لعامة الناس، وليس مجرد محاولات حثيثة من قبل واضعيه لأسلمة الدولة والمجتمع السوري، والاختفاء وراء التعابير القانونية الفارغة.
ومايزال السوريون رغم ضيق الوقت والحال ينتظرون استبدال هذا الاعلان باعلان دستوري يستجيب للمعايير المعمول بها عالمياً. ولا سيما أن الاستمرار بهذا النهج المستفز، سيجعل الطوائف والأقليات والعلمانيون يفكرون جديًا في البحث عن حقهم في تقرير مصيرهم بعيدًا عن مفهوم الامارة الاسلامية المنوي قيامها تحت ستار الدولة. ولا نبالغ اذا قلنا أن هذا الإعلان الدستوري يمهد لصرعات و حروب أهلية مستدامة ويغرز خنجرا في الجسم السوري لتمزيق سوريا جغرافيًا وديموغرافيًا.
لندن بتاريخ 2025/03/15