
فتاة تحمل علمًا سوريًا يعود إلى عصر الاستقلال من نافذة حافلة تقل نازحين عائدين إلى ديارهم
بقلم الدكتور كامل فريد السالك *
* أستاذ جامعي وباحث مقيم في لندن
من أكثر القضايا التي تطرح في النقاش حول مستقبل الحكم في سورية هي قضية المركزية واللامركزية. فالمركزية واللامركزية نموذجان للإدارة السياسية والتنظيمية داخل الدولة، يعتمدان على مدى تركيز السلطة واتخاذ القرار. فالمركزية تعني تركيز السلطة في يد الحكومة المركزية، بحيث تكون جميع القرارات والسياسات صادرة من السلطة المركزية في العاصمة أو السلطة العليا، دون منح سلطات كبيرة للمناطق أو الإدارات المحلية.
في حين أن اللامركزية تعني توزيع السلطة بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية أو الإقليمية، مما يمنح الأقاليم أو البلديات صلاحيات معينة في اتخاذ القرارات ضمن إطار الدولة.
الشكل النمطي
فالدولة المركزية هي دولة يرجع الحكم بها لحكومة مركزية يعود إليها البت بشؤون جميع الوحدات الفرعية مثل الاقاليم والمحافظات والبلديات في ذلك البلد. وتعتبر الدولة الموحدة الشكل النموذجي للحكم المركزي، وتعتمد غالبية دول العالم النظام المركزي؛ حيث يوجد 165 دولة تتبع هذا النظام من أصل 193 دولة. وأما الدولة اللامركزية فهي دولة توزع بها السلطة بين الحكومة المركزية والسلطات الإقليمية، مما يمنح الأقاليم صلاحيات معينة في اتخاذ القرارات ضمن إطار الدولة.
وتعتبر الدولة الاتحادية (الفيدرالية) الشكل النمطي للنظام اللامركزي حيث توزع السلطة بين الحكومة الاتحادية المركزية وبين حكومات الأقاليم أو الولايات وهي كيانات سياسية أصغر ضمن الدولة. وتعتبر هذه الكيانات وحدات دستورية لكل منها نظام يحدد سلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، بحيث يكون لكل ولاية أو إقليم قوانين خاصة في بعض المجالات مثل القوانين الخاصة بالنظام التعليمي والثقافي والاجتماعي، إلى جانب القوانين التي تسري على كل ارجاء الدولة مثل القوانين المتعلقة بالدفاع والأمن والسياسة الخارجية، بحيث تبقى كل الاقاليم تحت مظلة دولة واحدة وحكومة واحدة هي الدولة والحكومة الاتحادية. وباختصار عندما تكون السلطة موزعة بين الحكومة المركزية والولايات، فنحن أمام حكم لامركزي، مثل الولايات المتحدة الأميركية حيث توزع السلطة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الولايات، في حين اذا كانت السلطة مركزة في الحكومة المركزية، فنحن أمام حكم مركزي، ودولة موحدة مثل جمهورية مصر العربية حيث تتركز السلطة في الحكومة المركزية، وتعتبر التقسيمات الادارية مثل المحافظات والبلديات مجرد تقسيمات تنظيمية وتتبع الحكومة المركزية.
المركزية واللامركزية
والحقيقة أن المركزية وللامركزية واللذان يتجسدان نمطيا في الدولة الموحدة والدولة الاتحادية، لا تتجسدان بشكل او نمط واحد بل لها في الحقيقة نماذج وأنماط وأشكال لا حصر لها يربطها خيط رفيع واحد هو مركزية السلطة وتركيزها في الحكومة المركزية، أو لامركزية السلطة وتوزيعها بين الحكومة المركزية وحكومات الولايات، بحيث يكون لكل منها سلطات محددة ينص عليها الدستور. فالدول الاتحادية ليست على شكل واحد فهناك أشكال مختلفة من الدول الاتحادية يجمع بينها وجود حكومة اتحادية وحكومات أقاليم تتقاسم فيما بينها السلطة وفقا لما ينص عليه الدستور. فمثلا الولايات المتحدة دولة لامركزية وألمانيا الاتحادية دولة لامركزية وكل منهما فيها حكومة اتحادية وحكومات للاقاليم ولكن هذا لا يعني أن النظام الاتحادي في الولايات المتحدة وجمهورية ألمانيا الاتحادية متماثل بسبب وجود فوارق لا حصر لها بين النظام الاتحادي الاميركي وبين النظام الاتحادي الألماني.
وكذلك الحال في النظام المركزي، فمصر مثلا دولة موحدة مركزية وفرنسا دولة موحدة مركزية لكل منهما حكومة واحدة مركزية ولا يوجد فيها حكومات أقاليم. ولكن النظام المركزي الفرنسي يختلف كليا عن النظام المركزي المصري. ومهما يكن شكل الدولة اتحاديا او موحدا مركزيا أو لا مركزي هناك توجه عام في كل دول العالم إلى أعطاء صلاحيات واسعة للإدارات والهيئات المحلية وحكومات الاقاليم. لقد تمخضت الخيرة البشرية المتراكمة عن خلاصة مفادها أن تركيز السلطة في يد جهة معينة أمر خطر للغاية.
ولذلك أصبح مبدأ توزيع السلطات وفصلها أولوية لدى كل الدول الديمقراطية. لقد نبهنا العلامة الفرنسي مونتسكيو إلى خطورة تركيز السلطات بقوله: “التجربة الأبدية أثبتت أن كل إنسان يتمتع بسلطة لا بد أن يسيء استعمالها إلى أن يجد الحدود التي توقفه، الفضيلة في حد ذاتها في حاجة إلى حدود. وللحيلولة دون إساءة استعمال السلطة فإنه يتوجب أن يكون النظام قائماً على أساس أن السلطة تحد السلطة.” وهذا الذي اسس لمبدأ توزيع السلطة افقيا بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، كما أدى إلى توزيع السلطة عاموديا بين الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم في الدول الاتحادية، أو الحكومة المركزية والادارات المحلية في الدول الموحدة.
بعد اجتماعي
وفي سورية البلد المتعدد المذاهب والاعراق تكتسب اللامركزية بعدا اجتماعيا وثقافيا، فقيام نظام قانوني لامركزي في سورية لا تمليه الاعتبارات الديمقراطية وتوزيع السلطات فحسب، بل يفرضه أيضا الواقع والنسيج الاجتماعي الفريد للمجتمع السوري. وعليه يكون انشاء نظام لامركزي في سورية ليس مجرد ضرورة يقتضيها مبدأ توزيع السلطات بين السلطة المركزية وسلطة الأقاليم التي هي الف باء النظام الديمقراطي سواء في النظام المركزي او النظام اللامركزي، بل حاجة تقتضيها التركيبة الفريدة للنسيج المجتمعي في سورية.
وغني عن البيان أن الدول التي فضلت الاخذ بالنظام المركزي وجدت نفسها مضطرة لاعطاء الاقاليم والبلديات سلطات واسعة في المجال الاجتماعي والثقافي والتنظيمي، واتجهت لمنح صلاحيات واسعة للادارات المحلية في كثير من الشؤون. فقد لاحظنا انتشارا واسعا منذ ثمانينيات القرن الماضي لمنح صلاحيات واسعة للاقاليم والمحافظات والبلديات كاستراتيجية فاعلة في مجالات التنمية الإدارية في ظل توسع عملية الديموقراطية خصوصاً على المستويات المحلية من الحكم. وأدى الحديث عن التنمية في السنوات الأخيرة إلى النقاش المستمر حول فاعلية اللامركزية كشرط للوصول إلى التنمية المستدامة وأيضاً كمكون رئيسي من مكونات الحكم الرشيد.
المفهوم المبتسر
ومن المؤسف أن يسير النقاش حول نظام الحكم في سورية بخلاف الاتجاه العالمي. فمن يتابع السجال حول الحكم الأمثل لسورية بين النظام المركزي والنظام اللامركزي، يكتشف أن هذا السجال يهيمن عليه النظرة المسبقة والمفهوم المبتسر للمركزية واللامركزية. إن التصور النمطي عن وجود نموذجين من الحكم مركزي ولامركزي والجهل بحقيقة الفوارق بين نماذج الحكم المركزي ونماذج الحكم اللامركزي يقود بالمحصلة إلى هذا الاستقطاب والتزمت في المواقف، لدرجة أعتبر بعضهم أن مجرد المطالبة بحكم لامركزي هو مقدمة وتمهيد للاستقلال وتقسيم الوطن.
والملاحظ أن النظرة الاطلاقية للاشياء المتقابلة والحكم المسبق يكاد يهيمن على فكر الاطراف المتفاعلة، أكثر ما يطبعه واقع الحال وحقيقة الاشياء وفي مقدمتها وجود أشكال ونماذج متعددة وطيف واسع من الخيارات بين هذين النظامين. ومن المفيد التذكير بأن هذين النظامين في الحكم يمكن أن يتقاربان بحيث تنعدم الفوارق بينهما تماما، وأن بعض النماذج المتعددة للحكم اللأمركزي هي في الحقيقة أقرب إلى نماذج النظام المركزي منها إلى أشكال النظام اللامركزي.
الآليات القانونية
إن النقاش حول هذه المسائل والآليات القانونية بين العامة لن يوالآليات القانونيةفضي إلى نتيجة مثمرة وقد يفضي إلى خلافات عميقة، وخاصة اذا ألبست لابوسا قوميا أو طائفيا. من هنا نهيب بالجميع إلى تجنب الخوض في نقاشات عقيمة وخاصة اذا لم يكن لديهم خبرة في تجارب الدول واطلاع على معطيات العلوم القانونية. في الوقت الذي ندعو الجميع للنقاش بشفافية حول رغباتهم في الصورة التي تلبي طموحهم عن سورية المستقبل، ودون الخوض في المسائل العلمية، بعيدا عن فكر الطغاة الذين يصرون على حصر كل عناصر القوة في يدهم والتصرف بمصير الشعب بوصفه غنيمة في أيديهم.
لندن بتاريخ 2025