الدكتور كامل فريد السالك*

غيب الموت أسطورة الغناء والفن في العالم العربي، ورحل عنا بالجسد الفنان صباح فخري. فترك بغيابه في الدنيا وحشة، وأخذ قطعة من أفئدتنا وذكرياتنا. صباح فخري قيثارة فقدناها. وطويت برحيله مرحلة جميلة من حياتنا، نحن الذين كنا وسنبقى نحب فنه ونطرب بأغانيه. لقد رحل عنا الإنسان الذي أطربنا بأغانيه العذبة وقدوده الحلبية وموشحاته الحلوة. وغاب الصوت الجميل الذي هز أوتار قلوبنا وألهب مشاعر الحب عندنا، وأنعش ارواحنا وعقولنا.

كان صباح فخري يأخذنا بأغانيه إلى درب حلب، الى الشام، إلى دمر إلى الهامة، إلى كل ذرة تراب من أرض سوريا الطاهرة، ويحلق بنا في سمائها الزرقاء الصافية. كان ينقلنا إلى الاندلس إلى أمجاد السوريين والعرب، حيث نمر معه بمواكب ذكرى قرطبة واشبيليا وغرناطة. طبع احتفالاتنا الدينية بالفرح والموسيقى الشجية، وأعطى للانسان السوري والعربي جزءا من هويته وخصوصيته. لقب بحق بحارس التراث، حيث حافظ على هوية التراث وعلى خصائصه الفريدة وقام بتجديده لكي يلائم روح العصر.

إرث ثري

رحل الفنان الكبير وترك إرثا ثريا للغناء والفن، سيبقى لأجيال وأجيال. ولكن مساهمته الأكثر اشراقا تتجسد في حفاظه على الذوق الموسيقي العام، واهتمامه اللافت بلغة الغناء واختيار الكلمة السهلة الفصيحة المناسبة وانتقاء النص الجميل والراقي. لا نغالي إذا قلنا أن صباح فخري هو المطرب الوحيد الذي غنى باللغة العربية السليمة طوال حياته، وكان ينطق حروفها بصورة سليمة، ويبرز مخارج الحروف بشكل قل نظيره، ويحافظ على تشكيل الكلمة وموقعها في الإعراب بشكل صحيح. لقد حافظ صباح فخري بفنه الأصيل، ليس على الأصالة الموسيقية، والغناء التراثي الجميل بصوت عذب شجي. ولكنه أسهم في الحفاظ على اللغة العربية السليمة ومكانتها في الثقافة والفن. فاستعمل كل جماليات اللغة العربية وأساليبها في أغانية، بطريقة رائعة وفريدة. ووظف الغناء في ابراز جمال اللغة العربية ودقة تعابيرها، ما ينم عن عمق ودراسة للغة العربية، قلما تجدها عند غيره من المطربين.

غذاء الروح

علمنا الراحل الكبير أن الموسيقى غذاء الروح وأن عيشة لا حب فيها، جدول لا ماء فيه. وأن وطني حب يجري في دمي. وأن اللؤلؤ المنضود فى فمك الجميل، فيه سعادة للشقي و للعليل، علمنا كيف نترجم أهات العشق إلى تراتيل الغرام، وكيف نبتهل بالموشحات، ونناجي الخالق بلغة الموسيقا. علمنا كيف يستطيع الإنسان أن يكرس عمله لخير المجتمع وسعادة البشر. علمنا كيف يسهم الفن في تطوير المجتمع عندما يجسد ما يجب أن يكون، لا أن يكرس ما هو كائن.

صباح فخري الذي في حياته أعطى الفن الجميل والأصيل، وحدنا في مماته، في الحزن على رحيله و أعاد لنا صورة الألفة والتناغم التي طالما افتقدناها. نعم، لقد توحد الشعب السوري بكل أطيافه السياسية وألوانه الدينية في وداعه، في موقف يعكس مدى تأثير الراحل الكبير على الحياة الثقافية والفنية للمجتمع السوري والعربي. فشكراً يا أبا محمد على كل ما قدمته لنا. نستودعكم بيد رب عادل رحيم، ونسأل الله لك الرحمة والمغفرة، ونتقدم من عائلتك ومحبيك بخالص العزاء والمواساة. وإن لله وإن إليه راجعون.

*- كاتب ومحامٍ سوري مقيم في لندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *