لندن – جويس منصور:
في الماضي الذي ليس ببعيد، وأتكلم هنا عن حقبة السبعينات والثمانينات حين كان باب البيت يطرق في أي وقت. ويدخل الأقارب والاًصدقاء من دون أن يكونوا قد أخبروا أصحاب البيت بنيتهم المجيء. وقد كان هذا الأمر طبيعياً جداً. وكانت ربات البيوت تهم بسرعة لتقوم بالواجب وتحضّر “لقمة من الحواضر”. وقبل أن نفسر ما المقصود بعبارة “لقمة من الحواضر”. سأخبركم عما أذكره عن سلوك أمي حين كان يأتينا “زوار على غفلة” كما يقال.
لا بد من طانيوس
أذكر وجه أمي المبتسمة وهي تردد “أهلاً وسهلاً”. وفيما كان الزائرون يدخلون البيت ويجلسون في غرفة الجلوس مع أبي، كانت أمي تختفي في المطبخ لتحضّر ما يمكن تحضيره من “لقمة من الحواضر”. بطبيعة الحال كان لا بد من شراء المزيد من الحاجيات لتحضير الطعام، وكان أخي الثاني هو مسؤول المشتريات في المنزل حين “يأتينا زوار على غفلة”، كانت أمي تقول له جملتها الشهيرة: “روح عند طانيوس وجيب…”. وطانيوس هو صاحب الدكان في الحي الذي كنا نسكن فيه في الأشرفية. وطبعاً كان أخي يذهب ويأتي بالأغراض، وإذا نسي أي غرض كان عليه أن يذهب مجددأ إلى الدكان. أما أنا في هذه الأثناء فكانت مهمتي تحضير صحن الزيتون، واللبنة مع زيت الزيتون وحبة الزيتون على الوجه أكيد، وصحن الدبس بالطحينة.
زيارة عمتي… وقصة “الموزات”
في إحدى المرات زارتنا عمتي وعائلتها “على غفلة”، ولم يكن أخي موجوداً في البيت، في حالة مثل هذه، أنوب عنه أنا تلقائياً وأصبح رسمياً نائبة مسؤول المشتريات. وبعد التحيات الحارة وتبادل القبلات الثلاث التي يشتهر بها اللبنانيون، نادتني أمي. وأعطتني عشرين ليرة وطلبت مني أن أشتري بعض الحاجيات: “كمان روحي عند الياس اللحام وجيبي كيلو موزات”. خرجت مسرعة مع أبن عمتي وأنا أفكر لماذا تريد أمي أن أشتري الموز من عند اللحام. فقررت أن أشتري الموز من الدكان المجاور وأنهي مهمتي بسرعة كي يتسنى لي أن ألعب مع ابن عمتي لعبة المونوبولي.
اشترينا ما يلزم ورجعنا إلى البيت، وتوجهنا بسرعة إلى الغرفة لنلعب، وإذ بعد دقائق قليلة نادتني أمي من المطبخ، فذهبت إليها، فسألت: “أين وضعت الموزات؟”. فأشرت إلى حيث وضعتها على أرض المطبخ. فارتسمت تعابير الدهشة على أمي، وقالت: “قلتلك موزات يعني لحمة”. وطبعاً لا يمكن أبداً أن أقول لا لي أمي. فقمنا أنا وابن عمتي مجدداً وذهبنا الى الياس اللحام، وكنا نتبادل معاً عبارات التذمر.
لقمة من الحواضر
بعد الانتهاء من تجهيز الطعام بوقت قياسي، كانت أمي تقف وتنطق كلمتها السحرية: “تفضلوا لقمة من الحواضر”. وطبعاً كنا نهم جميعاً صغاراً وكباراً ونجلس ونأكل أنواعاً مختلفة وشهية من الأطايب والمازة اللبنانية. وعلى رأسها التبولة والبطاطا المقلية والحمص بطحينة والكبة. وهذا كله اسمه “لقمة من الحواضر”.
“لقمة من الحواضر”، هي عبارة تقال ليشعر الزائر بأن حضوره مرغوب به وأننا مهما قدمنا له فهو يستحق أكثر. وطبعاً هي آتية من صلب الكرم وحسن الضيافة اللبنانية. التي اشتهر بها اللبنانيون. “لقمة من الحواضر” عبارة تحمل دفئ المشاعر، والطيبة التي قلت كثيرًا في أيامنا هذه.