
FILE PHOTO: Khaled Brigade, a part of Hay'at Tahrir al-Sham (HTS), hold a military parade, after Syria's Bashar al-Assad was ousted, in Damascus, Syria, December 27, 2024. REUTERS/Amr Abdallah Dalsh/File Photo
أهم منظريهم ابن حنبل و ابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن باز
الدكتور كامل فريد السالك *
*أستاذ جامعي وباحث سوري مقيم في لندن
كثير من السوريين يتحفظ على هيئة تحرير الشام. وبعضهم يتخوف بحق ليس فقط من سيطرتهم على مفاصل الدولة وتوليهم زمام القيادة في سورية في الوقت الراهن، ولكنهم يتخوفون من إحكام سيطرتهم على مفاصل الدولة في المستقبل أيضا وفرض ايديولوجيتهم الضيقة والمتشدد والنموذج الذي يعتنقون في فهمهم للاسلام.
ايدولوجية و ادبيات وعقائد هيئة تحرير الشام، وتصنيفها على قائمة الارهاب مصدر قلق حقيقي لكثير من السوريين والعالم العارفين خلفيات هذا الفصيل. ولذلك يبدو من الضروري أن يكون السوريون على علم بالحقائق والمعتقدات التي تؤمن بها هيئة تحرير الشام، لما لذلك من أثر على حياتهم ومستقبلهم وربما مستقبل سورية التي نتمنى أن يكون مستقبلا مشرقا بعد تلك الحقبة التاريخية المظلمة التي خلقها النظام البائد.
هيئة تحرير الشام هي فصيل من فصائل السلفية الجهادية. لقد ظهر مصطلح السلفية الجهادية في نهاية الثمانينيات كوصف يطلق على بعض جماعات الاسلام السياسي والتي تزاوج بين اتباع السلف من جهة والجهاد من جهة ثانية وتؤمن بالجهاد في صورة الكفاح المسلح منهجاً للتغيير كما تتبنى الإسلام بمفهومه العالمي الشامل العابر للامم والاوطان. حرصت الجماعة السلفية الجهادية على أن تحمل هذا الاسم تيمنا باسم السلف والذين يمثلون الجيلين الذين تليا جيل الصحابة من التابعين ونادت هذه الحركة إلى الربط بين الإيمان والجهاد.
التغيير بالقوة
وهي ترى أن التغيير بالقوة هو أنسب وأصح الوسائل للتحرر وتحكيم الشريعة وتصحيح البنية الأساسية الدينية والاجتماعية والسياسية. ولذلك شهدنا أن انتصار الثورة يعني لهيئة تحرير الشام فتحا اسلاميا مبينا وليس انتصارا لارادة شعب يعيش ضمن دولة عانى الويلات من نظام قمعي مستبد. فهم لا يعترفون بمفهوم الدولة وحدودها الجغرافية، فلا يوجد شيء اسمه دولة في عقيدتهم، بل يوجد جهاد في سبيل الله. وهي تعتبر أن الاستيلاء على السلطة هو مجرد غنيمة يجب ان توزع على الفاتحين، ولذلك لم يكن من المستغرب أن يتفرد هذا الفصيل بالاستيلاء على كل مفاصل الدولة بحجة ان الغنائم للفاتحين فقط.
وقد صاغ المنطلقات النظرية الأولى للسلفية الجهادية أبو الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان في كتابه “الجهاد في الإسلام” الذي يعد من أهم الاسهامات التنظيرية للكفاح المسلح من أجل إقامة الخلافة وإعادة الحكم الإسلامي. وأهم منظري هذا الفكر هو ابو محمد المقدسي وغيره كثيرين منهم ايمن الظواهري واسامة بن لادن وعبدالله عزام وابو محمد عبد السلام فرج وابو قتادة الفلسطيني وابو مصعب السوري وعبد القادر عبد العزيز وأبو يحيي الليبي. وكان أول من نادى بهذه الفكرة أحمد بن حنبل و ابن تيمية وتبعهم بعد ذلك محمد بن عبد الوهاب وابن باز.
يقول أبو محمد المقدسي في حقيقة هذا التيار الاسلامي: “السلفية الجهادية تيار يجمع بين الدعوة إلى التوحيد بشموليته والجهاد لأجل ذلك في آن واحد أو قل هو تيار يسعى لتحقيق التوحيد بجهاد الطواغيت” ويضيف: “بعض الحركات الجهادية توثق جهادها وتحصره في منطلقات وطنية وترفض رفضاً حازماً وحاسماً أن تتعدى بجهادها حدود الوطن فالتيار السلفي الجهادي يخالف هؤلاء ومن أجل ذلك فهو لا يحصر جهاده في بقعة معينة من الأرض من منطلقات قومية أو أرضية بل ميدانه هي الأرض كلها فتجد أبناءه يجاهدون في شتى بقاع الأرض.”
قتال “العدو القريب”
ويقول محمد عبد السلام فرج، أحد أهم منظري السلفية الجهادية في كتابه الفريضة الغائبة، إن المسلمين “يلتزمون بكثير من الفرائض الدينية، لكنهم غيبوا فريضة أساسية وهي الجهاد”. ودعا فرج إلى الجهاد وقتال “العدو القريب”، أي الأنظمة الحاكمة في الدول ذات الغالبية المسلمة، قبل قتال “العدو البعيد” ويقصد به الدول غير الاسلامية الكافرة بدين الله. وقد أفتى واحد من منظري السلفية الجهادية هو عبدالله عزام بحتمية الجهاد وأعتبره “فرض عين” على أي مسلم، إذا ما احتلت أي أراض مسلمة. وفي تبنيهم الكفاح المسلح من أجل التغيير تختلف السلفية الجهادية مثل هيئة تحرير الشام عن السلفية الدعوية مثل الإخوان المسلمين، التي ترتكز أوليا على الدعوة والتربية والتعليم من أجل الإصلاح. ومن معتقدات السلفية الجهادية أيضا أن الديمقراطية والبرلمانات كفر وشرك بالله وأن هذه الأنظمة متجذرة ومدعومة من الخارج وقد فشل معها الإصلاح، ولذلك فهم يكفرون الأنظمة الحاكمة لارتكابهم نواقض الإسلام أو تبديلهم للشريعة الإسلامية وإستحلالهم للحكم بالعلمانية والديمقراطية.
ثلاثة مبادئ
وترتكز ادبيات السلفية الجهادية على المبادئ الثلاثة التالية:
المبدأ الأول هو مبدأ الحاكمية لله ويعني أن تكون مرجعية التشريع الوحيدة في الدستور والقوانين هي الشريعة الإسلامية بما تحمله من مصادر أصلية وفرعية وتعني أن الحكم والتشريع هو حق خالص للخالق، فأي إضافة مساوية أو إباحة للأخذ من مرجعية أخرى بجانب الشريعة الإسلامية فهذا شرك وكفر بالله الخالق. وهم يقصدون بالشريعة الشريعة وفقا الشريعة وفقا للمذهب الحنبلي المتزمت الذي وجد تطبيقا له في الفكر الوهابي. ويرون أن الدولة لابد أن تُحكم بالشريعة ويطبقون ذلك من خلال بعض الآليات منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما يفرض على معتنقيها أن يجوبوا الشوارع مثلا ويفرضون الشريعة، ويعتبر هذا هو التطبيق الأمثل لنظام الحسبة المستوحى من الآية: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ والذي كان متبعاً بالعصور الإسلامية. وكلمة المحتسب تعني المتطوع في سبيل الله. ولهذا نجد أن بعض أعضاء هيئة تحرير الشام يحاول أن ينشر رؤيته على المسلمين غير المسلمين في سورية من خلال دعوة الناس في الشوارع بطرق مختلفة للرجوع إلى السلف الصالح حتى ولو كانو غير مسلمين وتقليدهم في الملبس والمأكل والمشرب والمظهر مثل ضرورة لبس الحجاب والنقاب.
المبدأ الثاني مبدأ الولاء والبراء ويعني أن تكون الدولة قائمة على أساس إسلامي ديني يقوم على الولاء للاسلام والمسلمين ومناصرتهم والبراء من الشرك والمشركين ومعاداتهم. وبالتالي يتمكن المسلمون من إقامة دولة إسلامية عالمية قوية، دولة معادية للأنظمة المحاربة والغير شرعية.
المبدأ الثالث مبدأ الجهاد ضد الأنظمة الغير شرعية خاصة الأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية، والجهاد ضد الأنظمة العميلة التابعة للغرب الكافر وضد الدول المحتلة والدول الداعمة للاحتلال. وهذا ما دفع كثير من الدول العربية والاسلامية إلى التوجس من هذا الفصيل الذي سيطر على قيادة الدولة في سورية.
ومن المفارقة أن الجهادية السلفية وقفت ضد الجهاد في فلسطين لتحريرها من الاحتلال وهي ارض اسلامية محتلة وفقا لأدبياتهم، في حين فتحت الباب للجهاد إلى أفغانستان ضد الاحتلال الروسي، بإشارة من الولايات المتحدة التي أعتبرت المقاتلين العرب والأفغان أنهم مقاتلون من أجل الحرية. و كان من ضمن المجاهدين عبدالله عزام وأسامة بن لادن. وبعد انجاز مهمتهم في افغانستان بعد الانسحاب السوفييتي من أفغانستان اعتبرت أمريكا أن أفغانستان مفرخ للإرهاب وأن المتدربين على السلاح إرهابيون. وبالنتيجة فقد شجعت الادارة الاميركية المجاهدين للذهاب إلى أفغانستان مقاتلين من أجل الحرية وأعادتهم من أفغانستان ارهابيين.
سخرية الأقدار
ومن سخرية الأقدار أن يعاد زج هؤلاء السلفيين الجهاديين مرة أخرى في الثورة السورية وتسويقهم مجددا على أنهم “الثوار” الذين حرروا سورية من حكم الاسد، مع الابقاء على تصنيفهم ضمن قوائم الارهاب حتى الآن على الأقل.
ولا ريب أن معتقدات السلفية الجهادية بعيدة كل البعد عن المعتقدات الاسلامية للسوريين خصوصا وأهل بلاد الشام عموما، فالتطرف والغلو كان ومازال ابعد ما يكون عن طبائع أهل الشام، وإن الاعتدال والوسطية كان السمة الغالبة على طبائعهم على مر الاجيال، وهذا ما جعل من أهل بلاد الشام رواد الحضارة الانسانية على مر العصور وخاصة في عصور ازدهار الحضارة العربية الاسلامية الأموي والعباسي.
والمسلمون في سوريا يتبعون المذهب الحنفي والذي يرتكز على الرأي وإعمال العقل أكثر من التركيز على التقليد الأعمى، عند استنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة. وبالتالي فإن تقليد السلف على طريقة المذهب الحنبلي لم تستهويهم يوما بل كانوا على الدوام منفتحين لكل الأفكار وكل الثقافات رغم التزامهم العميق بايمانهم وشعائرهم الدينية، ولعل هذه الوسطية والمرونة هو ما جعلهم ابرع التجار على مر التاريخ و أهلهم ليقودوا التجارة العالمية بين الشرق القديم واوربا.
والحقيقة أن السوريين ورغم انهم متدينون بالفطرة إلا ان الحركات الاسلامية بنوعيها السلفية الجهادية مثل جبهة تحرير الشام والدعوية مثل الاخوان المسلمين لم تستملهم يوما من الأيام، مع التسليم أن النظام البائد ولعبه بالورقة الطائفية والمظالم التي لحقت بطائفة بعينها دفعت بعض منهم للتطرف والتشدد. فعندما كانت سورية تعيش الحقبة الديمقراطية بعد الاستقلال لم تجتذب الاحزاب الإسلامية أصوات الشعب السوري، حتى أنها استطاعت بالكاد أن تمثل في البرلمان بكتلة صغيرة للغاية لم تتجاوز الخمسة في المئة من عدد النواب الكلي في أحسن تقدير. ففي انتخابات 1949 كان للاخوان ثلاثة نواب من أصل 139، وفي انتخابات 1961 كان لهم حوالي العشرة نواب من أصل 169 نائبا. هذا بشأن الاسلام السياسي الدعوي، وأما عن الاسلام السلفي والجهادي، فلم يكن يوما مقبولا او مستساغا من السوريين. فاغلب السوريين وان كانوا يقدرون السلف الصالح، لكنهم لا يميلون إلى تقليده في كل شيء ولا يتخذون الجهاد او الكفاح المسلح طريقا لحسم النزاعات.
يجب تحكيم العقل
ومن خلال ما تقدم تظهر الهوة العميقة والبون الشاسع بين معتقدات هيئة تحرير الشام المتشددة وبين معتقدات الانسان السوري المعتدلة. وهذا يستوجب أن تقوم هيئة تحرير الشام بالتفكير مليا عند التعاطي مع الشأن السوري، وعدم محاولة فرض ايديولوجيتها وعقائدها على المجتمع السوري. فالمجتمع السوري يعتنق الإسلام منذ أربعة عشر قرنا، وقد نشر الإسلام في كل المعمورة، ولا يحتاج هيئة تحرير الشام والأخوان المسلمين ولا غيرهم، ليقول له ما هو الإسلام. ولذلك ينبغي على قيادة سورية الجديدة أن تبتعد عن ايدلوجية الاسلام السلفي الجهادي، و أي ايديولوجية سواء كانت اسلامية او قومية او فكرية. ينبغي أن تتمتع بالمرونة التي تؤهلها للتعامل مع الاحداث بمنطق الدولة وبلغة المصالح والمنافع لا بلغة المبادئ والافكار. ولا سيما أنه قد تم تجريب الايدولوجيات القومية والاسلامية في العالم العربي والاسلامي وفشلت فشلا ذريعا. والمطلوب الآن الانفتاح إلى العلم والثقافة والابتكار. فالوضع في سورية لا يسمح بتكرار تجارب اثبت الواقع فشلها في كل الأصعدة، وسيما أن حال الشعب السوري المزرية لا تحتمل مزيد من التجارب عليه والمخاطرة بحياته ومعيشته الحرة الكريمة. وغني عن البيان أن التركيز على قضايا شكلية خلافية، مثل الحجاب وسواها فيه استخفاف بمعاناة وتضحيات شعب رضخ منذ نصف قرن تحت سيطرة نظام اجرامي مستبد.
من هنا نهيب بالسوريين جميعا إلى تحكيم العقل وإعلاء مصلحة الوطن والحفاظ على وحدة اراضيه وصون نسيج الامة الاجتماعي الفريد. نهيب بهم العمل بروح الفريق الجماعي الموحد لقيادة هذه المرحلة المفصلية في تاريخ سورية. فسورية تستحق من الجميع تقديم كل ما يستطيعون من أجل رفعتها وعزتها ومكانتها بين الأمم ومن أجل أن تحيا سورية وينعم شعبها بحياة كريمة عزيزة، وتنهض بدورها الحضاري والإنساني.
لندن في 15 يناير (كانون ثاني) 2024