
عصام حسين الحُرّ *
إنّه يوم جمعة
المدارس في عطلة، وسيكون بإمكاني أن أرتاح. خرجتُ من البيت، وليس في مفكّرتي سوى أمرَين: إنجاز معاملة في السراي، وزيارة أحد الأصدقاء. انطلقتُ وشعورٌ من السعادة يغمرني لأنّني لن أكون في عجَلةٍ من أمري.
أدرتُ راديو السّيّارة،.. إنّها النّشرة الاقتصاديّة، والمذيعُ يزفّ إلى المواطنين بُشرى وصول باخرة طحين… آه… تذكّرتُ… عليَّ أن أحصل على ربطة خبز… لا بأس… سأمرّ على أحد الأفران، وأحصلُ على الخبز، وأتابع إلى السراي..
صفٌّ طويلٌ أمام الفرن…
احترتُ.. هل أذهبُ إلى السّراي أو أنتظمُ في الصّفّ وأنتظر؟.. وبعد تردّد لم يستمرّ طويلًا، قرّرتُ المرابطة أمام الفرن، فالمعاملة تستطيعُ الانتظار، أمّا الأفواه فلا.
وقفتُ. حرارة الشّمس قويّة، والصّفّ الطّويلُ يتقدّمُ ببطءٍ شديد، ويكبر بسرعة. الوقتُ يمرّ… لا يهمّ.. المهمّ أن أحصل على الرّبطة، وكلّ شيءٍ بعد ذلك يهون.
الدّقائقُ تمرّ ببطء… والمنتظمون في الصّفّ يقتربون من شبّاك صاحب السّعادة
ببطءٍ أيضًا… مرّت ساعة… صرنا أقرب إلى الشّبّاك، والفرَجُ يدنو أكثر فأكثر.
الحرارةُ شديدة… ليتني اشتريتُ الجريدة قبل أن أقف في الصّفّ، فأحمي رأسي بها من الحرارة اللّاهبة.
لكنْ، لا بأس… المهمّ الخبز.
السّاعة الثّانية من الانتظار تقترب من نهايتها..! مئة وعشرون دقيقة مرّت، وها أنا على بُعد مترَين من الحصول على ربطة الخبز،.. ذهبَ الكثير، ولم يبقَ سوى القليل… لحظات وأفوز بالرّبطة، لكنْ، فجأة، ومن دون سابق إنذار،.. ارتفعَ صوتٌ.. العجنة انتهت.. عودوا بعد ساعتين.
ماذا؟
وهل أكون بعد ساعتين فادرًا على الوقوف ساعتين أُخرَيَين؟
يا أخ.. يا أستاذ.. أرجوك.. ربطة..
ويأتي الجواب أكثرحسمًا: بعد ساعتين.
لا حول ولا قوّة إلّا بالله.
مشيتُ.. أقنعتُ نفسي..لماذا الخبز؟.. الكعك لذيذ.. نستطيعُ الاستغناء عن الخبز اليوم والانتظار إلى الغد… إذًا، لأسرعْ إلى السّراي وأنجز المعاملة.. لكنّ الساعة قاربت الثّانيةَ عشْرةَ ظُهرًا، والدّوائرُ أقفلتْ.. حسنًا، سأنجزُ المعاملة في يوم آخر.
توجّهتُ لزيارة الصّديق. في الطّريق لاحظتُ أنّ مؤشّر البنزين قد بالغَ في الانحناء نزولًا. الأفضل أن أحصل على تنكة بنزين قبل متابعة طريقي.
توجّهتُ إلى المحطّة.. طابور طويل من السّيّارات. وحرارةُ الشّمس قد بلغت درجةً قصوى. لكنْ.. لا بأس. تنكة البنزين تستحقّ الانتظار. وقفتُ في الصّفّ… ومرّةً أُخرى، رحتُ أعدّ الواقفين أمامي، وفي الوقت عينِه رحتُ أعدّ السّيّارات الّتي تملأ خزّاناتها من ضمن الصّفّ، وتلك الّتي “تشكّ” من خارج الصّفّ، وأولئك الّذين يحملون “الغالونات” وكأنّ البلدبألف خير… وفهمتُ على الأرض معنى أن يكون الإنسان مواطنًا صالحًا.
مرّت ساعة… وانتصفت الثّانية.. عشر سيّارات ويصلُ دوري. العرق يتصبّبُ على جبيني.. الحرارة تشتدّ. لكنْ، بسيطة، اقتربَ الفرَج.
وفجأةً، علا صوتُ خازن البنزين.. الكهرباء انقطعت، ولا بنزين حتّى عودتها،…
ماذا؟!..
أمَا من طريقة؟
لا مجال.. لا بنزين طالما الكهرباء مقطوعة.
أما عندك مولّد كهربائيّ؟
المولّد يعمل على المازوت، والمازوت.. مقطوع.
ضربتُ كفًّا بكفّ. إنّها الثّانية.. أأنتظر أم أنصرف؟
ربّما عادت الكهرباء. سأنتظر. وانتظرتُ… وطال انتظاري ثلاثة أرباع السّاعة.. من دون جدوى.
تركتُ المحطّة
أزور الصّديق، وفي طريق العودة أعرّج على المحطّة، فقد يعود التّيّار خلال هذه الفترة. وانطلقتُ باتّجاه منزل الصّديق. إنّه في إحدى ضواحي المدينة.
قطعتُ نصف المسافة،.. وانطفأت السّيّارة. لقد نفد البنزين.
وقفتُ ذاهلًا.
ماذا أفعل،
حاولتُ الحصول من بعض العابرين على بضعة ليترات تعيدني إلى البيت،.. لكنْ، من دون فائدة، فما أطلبُه على الطّريق من عابر سبيل يعزّ الحصولُ عليه في عقر داره ومن المعنيّ به.
لبثتُ جامدًا في وقفتي أفكّر،.. لم يكنْ أمامي من خيار. أقفلتُ السّيّارة، وقفلتُ عائدًا إلى البيت في سيّارة أُجرة.
دخلتُ البيتَ تعِبًا مرهَقًا.
فكّرتُ في تحضير كوب شاي يُنسيني عناءَ هذا اليوم المنتِج. لكنْ، تذكرتُ… لا غاز في البوتاغاز، وبالطّبع، لم أفكّر في استحضار قارورة غاز. استلقيتُ، وأدرتُ الرّاديو محاولًا أن أنسى هذا اليوم التّاريخيّ من عُمري.
إنّها نشرة الأخبار، وها هو صوت المذيع ينساب مطمئنًّا مرتاحًا ناقلًا آخرَ الأخبار المحلّيّة والعربيّة والدّوليّة.
وفي نهاية النّشرة « نذكّر السّادة المستمِعين بقرار تقديم السّاعة ساعةً واحدة اعتبارًا من منتصف هذه اللّيلة».
وهنا، تذكّرتُ المذكّرة المتعلّقة بالتّوقيت الصّيفيّ.
إنّه حرْص المسؤولين على وقتنا الثّمين.
*من كتاب «همَسات صاخبة»