بقلم: سهى حدّاد/نعيمه

وُلد ميخائيل نعيمه في بسكنتا في 17 تشرين الأول/أكتوبر 1889 ورحل إلى دنيا الحقّ والنورفي 28 شباط/فبرير 1988، الساعة العاشرة والثلْث مساءً، من منزله بالزلقا.

ميخائيل نعيمه  1889 – 1988

هذا ما تشير إليه الصّخرة الترحيبية إلى ضريح ميخائيل نعيمه في أرضه الشّخروب في سفح جبل صنّين.

وما بعد هذه الصخرة الترحيبيّة طريق ضيّق مُفيّا بأشجار السنديان وغيرها من الأشجار والنباتات البريّة من نسج بركات تلك الأرض يقود الزائر إلى ضريح ميخائيل نعيمه الذي هو بوّابة نحو عالم ميخائيل نعيمه الفكري والرّوحي، وربّما بوّابة قد تقود الزّائر إلى ذاته، أو إلى ذاته العليا المنقوشة في ذاكرة الحياة.

يؤدّي الطّريق إلى التمثال الّذي هو عبارة عن رأس ميخائيل نعيمه وأكتافه، وهو تمثال بارتفاع 3.4 أمتار، وبعمق مترين ونصف، وبعرض ثلاثة أمتار ضمن العرض العام الذي يبلغ 7 أمتار.  وبجانب التمثال باب موجّه الى جبل صنّين ومنحدراته ونتوءاته التي هي مصدر إلهام ووحي لنعيمه في كثير من مؤلّفاته وعلى رأسها كتاب مرداد الذي يخصّ بفصل من فصوله “منحدر الصوّان” على سفح جبل صنّين وما يتضمّنه ذلك الفصل من رموز فلسفيّة تعانق الوجود وأبعاده الثلاثيّة وما بعدها، وخلف ذلك الباب الناظر إلى الجبل ترقد رُفات نعيمه.

أمام الضريح ساحة معبّدة بالحجارة الخام الطبيعيّة غير مقصوبة والتي تنضح بسنوات تلك المساحة الصغيرة-الكبيرة التي تجود بها أرض تلك المنطقة.  يقف الزائر هناك وكأنّه وسط رحم مفتوح يبعث التجدّد والولادات المتكرّرة في نفْس كلّ زائر يبحث عن نفْسه وعن نور خالقه الموجود فيه.

النحّاتون الإخوة الثلاثة

نُحت عمل الضّريح عام 1999 ونفذه النحّاتون الإخوة عسّاف الثلاثة: عسّاف عسّاف، ومنصور عسّاف، وعارف عسّاف. وقد أُخذَتْ صورة نعيمه لنحْت التمثال عن غلاف الكتاب الوثائقي للدكتور نديم نجيب نعيمه الذي هو بعنوان “طريق الذات إلى الذات” والذي هو حول عمّه ميخائيل، وهو كتاب يوثّق جميع مراحل نعيمه، منذ ولادته وحتى سنة صدور الكتاب الذي تضمّن الانطباعات والانعكاسات التي تركَتْ أثرها على روح نعيمه وفكره. وقد صدرالكتاب سنة 1978 حين كرّم الرئيس الراحل الياس سركيس نعيمه في أسبوع كامل من شهر أيّار (مايو)، فكانت المحاضرات والمسرحيّات والأفلام الوثائقيّة وغيرها من أوجه التكريم الثقافيّ.

نديم نجيب نعيمه

صمّم مشروع ضريح ميخائيل نعيمه وموّله بالكامل الدكتور نديم نجيب نعيمه، أبن أخ ميخائيل نعيمه . وابتدأ تنفيذ المشروع في الأوّل من أيّار (مايو) من عام 1999. في ذلك اليوم، انتقل الإخوة عسّاف إلى منزل الأجداد في الشّخروب، والّذي كان قد رمّمه ميخائيل نعيمه حوالي عام 1940 فحوّله من قنطرتين يسكنها أهل البيت ومواشيهم إلى بيت متكامل مقسّم الغرف وقد أُضيف إليه مطبخ وبيت خلاء. في ذلك البيت وفي ذلك الإطار من الجمال الطبيعي والسكون الدهري، مكث الإخوة عسّاف ليبدأوا عملهم الفنّيّ الجبّار ولينتهوا منه في السّابع من أيلول 1999، يوم اكتمال تنفيذ وبناء المقام المؤلّف من الضريح والتمثال والساحة ومقاعد للزوّار بعضها مكشوف والبعض الآخر متغلغل في سكون الطبيعة وصمتها لمن يبحثون عن التأمّل والانفراد.

الافتتاح الرّسمي

وفي تاريخ التّاسع من أيلول 1999، تم الافتتاح الرّسمي للضريح بحضور الوزير ميشال سماحة آنذاك بالإضافة إلى حشد من الشّخصيات العامّة والثّقافية، والفنّية، والاجتماعية، وبتغطية إعلاميّة شاملة.

فكأن بنديم نعيمه، أستاذ الفلسفة في الجامعة الأميركيّة،  يحفظ فلسفة عمّه في سجلات الشخروب الطبيعيّة، مخلّداً الأرض التي أنبتت نعيمه وأغواره وأبعاده، تلك التي حفرها نعيمه في ازليّته وأبديّته. انّها محبّة نديم لعمّه تفيض لتحفظ ذاتها على سجلّات الكون الرهيب المطبوع على تلك الصخور الشاهقة التي تحوّلًتْ بإزميل الأخوة عسّاف وفنّهم إلى صخرة ناطقة يهتف فيها نعيمه إلى ربّه وزوّاره فتلاقيه الدنيا بجمالها وحبورها.

فها هو ميخائيل نعيمه  من خلال هذا العمل الفنّي الضخم المتمثّل بتحويل صخرة الشخروب المهيبة إلى رأس ميخائيل نعيمه المائل قليلاً، تسنده يده اليسرى، يتأمل بسكون وسكينة في الحياة، في حدودها المرئيّة والغير مرئيّة، مبتسماً للحاضرين، باعثاً سلاماً مباناً.

تقوم فلسفة ميخائيل نعيمه على مبدأ السموّ الروحي، وعلى أن الإنسان أوسع في مكنونه وأبعد في مقدرته من محدوديات الأعباء الدنيويّة التي تثقل كاهله. فمهّمات الإنسان هي أن ينصهر في النّور الأحد، والذي هو مصدر كلّ أشكال النّور والحياة.

لقد مهّدَ ميخائيل نعيمه الطريق لابن أخيه نديم نجيب نعيمه لـ”ذات أوسع”، ذات تجاوزت المنظور الزمنيّ الدائم التغيير.

لذلك، حان الوقت لنديم نعيمه ليمهّد الطريق لزوّار ضريح ميخائيل نعيمه للسعي وراء “ذات أوسع”.

يمشي الزوار في الطريق الذي يفضي إلى البهو الأرحب، حيث يوجد التمثال المنحوت والباب الذي يرقد خلفه جسد ميخائيل نعيمه. وفي ذلك الفضاء الأوسع، هنالك علاقة تكامليَة وثيقة مميّزة بين مفاهيم ميخائيل نعيمه عن الله والخلق والجمال، وبين الطبيعة والكمال المحيطين به. فتنضح هذه العلاقة أثيراً مميزاً من السّلام والانسجام.

ونظراً لطبيعة التفاعل الروحيّ اللصيق بين ميخائيل نعيمه والخلْق والخالق، اختار نديم نعيمه هذه السطور التأبينية لتُنقش على باب اللحد، وهي مقتبسة من كتاب عمّه ميخائيل “نجوى الغروب” الذي نُشر عام 1973 وقد شارفتْ شمس الأديب على المغيب وهو في الثمانينات من عمره حين صدر الكتاب، فيسبّح ربّه ويناجيه:

طفلك أنا يا ربّي”

وهذه الأرض

البديعة الكريمة الحنون

التي وضعتني في حضنها

ليست سوى المهد

أدرج منه إليك.”

تُرك باب القبر موارباً لأنه حان الوقت لميخائيل نعيمه أن يغادر هذه الدنيا إلى المقطع الآخر من الوجود. فقد سبقه كثيرون، وكثيرون سيتبعونه. فهنالك حركة مستمرّة من الدخول والخروج من وإلى هذه الحياة، والعكس صحيح، فازدحام المارّين أدى إلى تآكل عتبة الباب. فلهذه العبْرة، نحتَ الأخوة عسّاف عتبة الباب وكأنّها قد تآكلَتْ من كثرة الدّعس للدلالة على تلك المعاني.

تناسخ الأرواح

آمن ميخائيل نعيمه بفكرة تناسخ الأرواح، التي تملك التفسير لوجود مستويات مختلفة من الوعي. حيث أنّ أرواح البعض تميل لأن تكون بمجْملها حيوانيّة، بينما تميل أرواح أخرى نحو الإنسانيّة الصرفة. فقد ربط نعيمه هذه الحقيقة بعدد الحيوات التي كانت قد اختبرتها الروح. فكلّما ازداد عدد الحيوات المعاشة، كلما تنقّت الروح وتطهّرت، وكلما تعمّقت درجات الوعي، واتسعت الذات.

بعبارة أخرى، ووفقاً لميخائيل نعيمه، يمكن محاكاة حقائق الحياة بهرم: في القاعدة يقبع غالب البشر، أولئك الذين تحركهم غرائزهم ومخاوفهم الزمنيّة. وكلّما ارتقى البشر صعوداً على الهرم كلّما ازدادت صعوبة وتحدّيات عمليّة الارتقاء، وكلّما انخفض عدد مرافقيهم، إلى أن تبلغ نخبة قليلة من السالكين معتركات الحياة القمّة حيث يوجد الإله الأحد في ذروة الهرم. وفيما يرتقي البشر درجات الهرم يكتسبون رؤية أشمل، كونهم ينظرون من منظور أسمى وأعلى، فيستطيعون الكشف عن ما يعجز من هم في القاعدة على رؤيته وفهمه. وكلّما ارتفع المستوى العُلْوي للروح، اتسعت النفْس والرؤيا.

كتابه وقلمه وغصن من الشجر

وفي العودة إلى باب الضريح وعلى عتبة الباب المتآكلة، أودع ميخائيل نعيمه كتابه وقلمه وغصن من شجر البلوط الوافر في تلك الأرض. فلن يحتاجها نعيمه بعد عبوره، من خلال ذلك الباب الذي لا يزال مفتوحاً قليلاً، للحياة ما بعد الموت الذي هو حياة لا تنضب. فيرقد غصن البلّوط ممدّداً هامدأ في سكون كما ينام دور القلم والكتاب.

وقد خُطّت هذه السطور على الكتاب:

تلك الوليمة يا قلمي

تنتهي عند أعتابها مهمتك.

لقد انتهت الآن مهمّة القلم مع انقضاء وليمة الحياة الأرضيّة التي هي عبّارة الى الحياة الماورائيّة…

لقد حوّل نديم نعيمه زيارة ضريح ميخائيل نعيمة في الشخروب في سفوح صنّين إلى تجربة فريدة من نوعها، حيث يتحوّل الزائر إلى قلم يكتب تفاعلاته الخاصّة في عالم ميخائيل نعيمه، العالم الذي هو اندماج بين العالم الماديّ والروحيّ، الرحلة الحقيقية إلى الذات الأوسع.

كما كتب ميخائيل نعيمه ذات مرة: “إن كنْتُ مرّة، كنت أزلاً.”

أخيراً، يبقى ما شيّده الدكتور نديم نعيمه والأخوة عسّاف لميخائيل نعيمه في الشخروب خالداً كالأزل والأبد وكفكر نعيمه وروحه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *