لندن – الدكتور كامل فريد السالك

– (كاتب وباحث سياسي وحقوقي سوري)

في مساء العاشر من أيار/مايو 1933 تجمع حوالي 70 ألف شخص في أحد ميادين برلين وقامت مجموعة من الطلبة بنقل أكثر من 20 ألف كتاب لتحرق أمام عيون الجميع. كان الهدف من حرق هذه الكتب هو “التصدي للروح غير الألمانية”. المفارقة أن الشاعر الألماني الشهير هاينريش هاينه والذي تعرضت أعماله للحرق كان قد كتب جملة معبرة قبل هذه الواقعة في عام 1812 وهي: “أينما تحرق الكتب، فسينتهي الأمر بحرق البشر أيضا”. وصدقت عبارة الشاعر الألماني هاينه، فبعد أعوام قليلة من عملية حرق الكتب بدأت المحارق النازية والمعروفة بالهولوكوست.

خطورة الواقعة

أردنا بهذه المقدمة تسليط الضوء إلى خطورة واقعة حرق القرآن أمام السفارة التركية في العاصمة استوكهولم يوم أمس. وذلك لسببين: الأول لأن القرآن هو كتاب وثانيا لأن القرآن كتاب له قدسيته، ولا سيما أن هذا الفعل المدان جاء بعدما أن هدأت هذه الأفعال المغرضة بعض الشيء في الفترة الأخيرة.

بداية يجب التأكيد بأن كل انسان شريف في هذا العالم مهما كان دينه وجنسه وأصله ولونه وميوله يرفض هذا العمل الخسيس ويدين الاشخاص اللذين قاموا به بأقسى العبارات. فهؤلاء الأشخاص يجب أن يحاسبوا على فعلتهم وأن لا يجدوا مكانا لافكارهم العنصرية في مجتمعنا البشري.

كتاب مقدس لملياري إنسان

فالكتاب الذي تم حرقه باستهتار هو كتاب يقدسه ويتعبد به حوالي ملياري انسان مسلم، وهو كتاب له كرامة واحترام عند غير المسلمين بمختلف مشاربهم. وهو كتاب فريد بالنسبة لعلماء اللغة العربية وعلماء الشرع والقانون والاجتماع.

لا شك بأن اللذين قاموا بهذا الفعل لم يريدوا فقط حرق اوراق كتاب، ولكنهم كانوا يريدون الاستهزاء بمعتقدات الأخرين ومقدساتهم، ويبتغون توجيه إهانة لهم، واثارة غضبهم وسخطهم ونوازع حب الانتقام في داخلهم، ولا سيما أن المسلمين ما يزالون يمتازون بفائض من الشعور بالعزة والكرامة والغيرة على الدين، وهي صفات فقدتها المجتمعات الغربية منذ زمن. وللأسف فإن هذا الفعل يحمل رسالة كراهية إلى إخوتهم في الإنسانية، تحقيقا لاجندات البغض والحقد وما أكثر اتباعها في عالمنا الحالي. ومن هنا فإن التغاضي عن هذه الأفعال بدواعي الدفاع عن حرية الرأي لا يخدم غير المشاريع التخريبية للمجتمع البشري. فممارسة حرية الرأي يجب أن لا تتعدى حدودها إلى درجة إهانة مقدسات الأخرين وجرح مشاعرهم الدينية. من هنا نطالب كل الحكومات في العالم بعدم التسامح مع هذا الاستخدام الشاذ لحرية الرأي.

هيمنة فكرة الحرية الشخصية

نعترف بصعوبة ملاحقة فاعلي هذا الفعل المدان، في ظل هيمنة فكرة الحرية الشخصية على القوانين في الدول الغربية التي تبيح للانسان حرق ما يشاء ما دام يعتبر من مقتنياته وملكه الخاص. فهؤلاء الاشخاص بالمفهوم القانوني الغربي لا يطالهم القانون، لأنهم أحرقوا كتابا اشتروه من مالهم الخاص. وبالتالي فإن أمر ملاحقتهم ستكون غير متاحة وفقا لقاعدة راسخة في قوانين العقوبات في العالم تنص على انه لا عقوبة بدون نص قانوني يجرم الفعل ويرتب على إتيانه عقوبة بحق مرتكبه.

ومن نافلة القول أن القوانين في الدول الغربية لا تجرم أفعال الاعتداء على الكتب السماوية والرموز الدينية، وتعتبر الدين وحتى وجود الله، مجرد أفكار بشرية خاضعة للنقد والتجريح والسخرية أحيانا. وبالتالي فالفكرة المهيمنة في اذهان المشرقيين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود المؤمنين برسالات السماء وبالله عز وجل، ليست موجودة مطلقا في الفكر والثقافة الغربية رغم ادعاء الاخيرة بتبني الفكر المسيحي اليهودي والتغني فيه. فالايمان بالله في المجتمعات الغربية ان وجد له مفهوم نسبي محدد، وليس ايمان مطلق كما هو الحال في الشرق. فالشك بوجود الله لدى المؤمنين وحتى رجال الكنيسة، أمر طبيعي غير مستهجن.

التعرض للمقدسات الدينية

المؤسف أن لا أحد يتكلم في العالم الغربي أو يقبل أن يناقش موضوع تقييد الحرية الشخصية، حتى عندما يتعلق الأمر بالتعرض للمقدسات الدينية. ويرفض أن يرى الأمور على حقيقتها، ويصر على رؤية هذه الوقائع من تلك الزاوية الضيقة التي يرى منها الغرب العالم. نتفهم جيدا اسس التفكير العلمي في المجتمعات الغربية الذي يرفض اعطاء اي فكرة حتى ولو كانت مصدرها الهي اية قدسية لكي لا توضع هذه الفكرة المقدسة في درجة أعلى من غيرها من الأفكار عند التقييم العلمي والموازنة. فهذا أمر تفرضه مقتضيات البحث العلمي واصول البحث عن الحقيقة التي هي غاية الإنسان. ولكن هذه المقتضيات يجب أن تحول أيضا دون إبخاس افكار الاخرين ومعتقداتهم، ناهيك عن محاولات إهانتها والتعرض لمشاعر أصحابها. فحرق القرآن مهما حسنت النوايا هو فعل اعتداء صارخ وإهانة مستنكرة لافكار ومشاعر أكثر من ملياري مسلم هم في الحقيقة أقاربنا واصدقائنا واحبائنا وأبناء جلدتنا، تشاركنا معهم ليس الهواء والماء والتراب، ولكن في أحيان ليست قليلة لقمة العيش والهموم والامال.

ورغم الشعور بالاسف من جراء هذا الفعل الخسيس، فإن كل إنسان نزيه، يجب أن ينضم إلى كل المستنكرين ويظهر التضامن والحب للمسلمين، ويشعر بالخيبة والاهانة التي يشعرون بها، ولا سيما أن الدولة التي تم فيها هذا الفعل المدان هو دولة رائدة في الدفاع عن كرامة الانسان وحقوقه، وبلد كريم في استقبال وايواء المهاجرين وكثيرين منهم مسلمين.

أصحاب الأجندات المشبوهة

بقي أن نقول، بأن القرآن لا يمكن أن يحرقه بعض العنصريين، أو شذاذ الافاق، او أصحاب الأجندات المشبوهة المجردة من الإنسانية والأخلاق. فالقرآن ليس مجموعة من صفحات الورق، يسهل حرقها كما يتصور هؤلاء، بل قيمة عظيمة، وكتاب محفور بحروف مقدسة في قلوب وفكر حوالي ملياري مسلم في العالم. والقرآن منهج حياة وسلوك مع الله ومع مخلوقاته، ومصدر الهام لهم في سلوك الطريق الذي يرونه مستقيما في الحياة، ومحفز روحي لعمل الخير والتضحية والرحمة. من هنا فإن هذه الافعال المسيئة، يجب أن يقودنا إلى التفكير الايجابي، وذلك بالتمسك أكثر من أي وقت مضى بالقيم الانسانية العظيمة التي جاء بها هذا الكتاب والتي يجب أن تتجسد في أعمال خير وتضحية عطاء ورحمة، وليس باعمال انتقام وردود فعل عشوائية تحقق في نهاية المطاف أهداف أولئك اللذين يتبنون اجندات تخريبية عنصرية عدائية بين الناس، تلك التي تصور للعالم أن المجتمع الإنساني ساحة للقتال والصراع والتشاحن بين الأديان والثقافات والاجناس والالوان المختلفة.

فهناك طريق واسع للعيش بسلام وباحترام وبود مع المختلفين يضمن السلم والامن والخير والرفاه والسعادة للجميع، وهناك طريق ضيق مفروش بالصراع والعداوات والكراهية يبدأ بحرق الكتب وينتهي بحرق البشر. وعلينا جميعا أن نختار بحس انساني وبضمير حي ما نريده لنا ولاولادنا وللاجيال القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *